+
----
-
غزوة حمراء الأسد مع الفوائد
في ظلال السيوف
وكانت يوم الأحد لثمانٍ خلون من شوال، على رأس اثنين وثلاثين شهراً، ودخل المدينةَ يوم الجمعة وغاب خمساً. قالوا: لمَّا صلَّى رسولُ الله-صلَّى الله عليه وسلَّم-الصُّبحَ يومَ الأحد، ومعه وجوه الأوس والخزرج، وكانوا باتوا في المسجد على بابه-سعد بن عُبادة، وحُباب بن المنذر، وسعد بن مُعاذ، وأوس بن خولي، وقتادة بن النعمان، وعبيد بن أوس في عدةٍ منهم. فلمَّا انصرف رسولُ الله-صلَّى الله عليه وسلَّم-من الصبح، أمر بلالاً أنْ يُنادي: إنَّ رسولَ الله يأمرُكم بطلب عدوكم، ولا يخرجُ معنا إلا مَن شَهِد القتالَ بالأمسِ.
قال : فخرج سعد بن مُعاذ راجعاً إلى داره يأمر قومَهُ بالمسير. قال: والجراحُ في الناس فاشيةٌ، عامةُ بني عبد الأشهل جريحٌ بل كلُّها، فجاء سعدُ بن مُعاذ، فقال: إنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يأمرُكم أنْ تطلبوا عدوَّكم. قال: يقولُ أسيد بن حضير- وبه سبعُ جراحاتٍ وهو يُريد أنْ يُداويها-: سمعاً وطاعةً لله ولرسوله، فأخذ سلاحَهُ، ولم يُعرِّجْ على دواء جراحه، ولحق برسولِ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-. وجاء سعدُ بن عُبادة قومَهُ بني ساعدة، فأمرهم بالمسيرِ فتلبسوا ولحقوا. وجاء أبو قتادة أهلَ خربى، وهم يداوون الجراحَ، فقال: هذا مُنادي رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يأمرُكم بطلبِ عدوِّكم . فوثبوا إلى سلاحِهم، وما عرَّجُوا على جراحاتهم. فخرج من بني سلمة أربعون جريحاً، بالطُّفيل بن النعمان ثلاثةَ عشرَ جُرْحاً، وبخراش بن الصِّمة عشرُ جراحاتٍ، وبكعب بن مالك بضعة عشر جُرْحاً، وبقطبة بن عامر بن حديدة تسع جراحاتٍ حتى وافوا النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم-ببئر أبي عنبة إلى رأس الثنية -الطريق الأُولى يومئذٍ-عليهم السلاحُ قد صفُّوا لرسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم- . فلمَّا نظرَ رسولُ الله-صلَّى الله عليه وسلَّم– إليهم، والجراحُ فيهم فاشيةٌ، قال: (اللهُمَّ ارحمْ بني سلمة).
قال الواقديُّ : وحدَّثني عُتبة بن جبيرة عن رجالٍ من قومه قالوا: إنَّ عبدَ الله بن سهل، ورافع بن سهل بن عبد الأشهل رجعا من أحد ، وبهما جراحٌ كثيرة، وعبدُ الله أثقلُهما من الجراح ، فلمَّا أصبحُوا، وجاءهم سعدُ بن معاذ يُخبرهم أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يأمرُهم بطلب عدوِّهم، قال أحدهما لصاحبه: والله إنَّ تركنا غزوةً مع رسول الله لغبنٌ، والله ما عندنا دابةٌ نركبها، وما ندري كيف نصنعُ؟! قال عبد الله: انطلق بنا، قال رافع: لا والله ما بي مشيٌ. قال أخوه: انطلق بنا، نتجارَّ ونقصد، فخرجا يزحفان، فضعف رافعٌ، فكان عبدُ الله يحمله على ظهره عقبة، ويمشي الآخر عقبة، حتى أتوا رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عند العشاء وهم يوقدون النيران فأتي بهما إلى رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم -، وعلى حرسه تلك الليلة عباد بن بشر -، فقال: ما حبسكما ؟ فأخبراه بعلتهما، فدعا لهما بخيرٍ ، وقال: (إنْ طالتْ لكم مدة كانت لكم مراكبُ من خيلٍ وبغالٍ وإبلٍ، وليس ذلك بخير لكم) قال الواقدي: حدثني عبدُ العزيز بن محمد عن يعقوب بن عُمر بن قتادة، قال: هذان أنس ومؤنس وهذه قصتهما.
وقال جابرُ بن عبد الله: يا رسولَ الله، إنَّ مُنادياً نادى: ألا يخرج معنا إلا من حضر القتالَ بالأمس، وقد كنتُ حريصاً على الحضور، ولكنَّ أبي خلَّفني على أخواتٍ لي، وقال: يا بني لا ينبغي لي ولك أنْ ندعهن، ولا رجل عندهن، وأخاف عليهن وهن نُسَيّات ضعاف، وأنا خارجٌ مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لعلَّ الله يرزقني الشهادةَ، فتخلَّفتُ عليهن، فاستأثره الله عليَّ بالشهادة، وكنت رجوتُها، فأذنْ لي- يا رسولَ الله- أنْ أسيرَ معك . فأذِن له رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - . قال جابر: فلم يخرجْ معه أحدٌ لم يشهد القتالَ بالأمسِ غيري، واستأذنه رجالٌ لم يحضروا القتالَ، فأبى ذلك عليهم ودعا رسولَ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم – بلوائه، وهو معقودٌ لم يحل من الأمس، فدفعه إلى عليٍّ- عليه السلام- ويُقال دفعه إلى أبي بكر.
وخرج رسولُ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو مجروحٌ، في وجهه أثرُ الحلقتين ومشجوجٌ في جبهته في أصول الشعر، ورباعيته قد شظيت، وشفته قد كلمت من باطنها، وهو متوهنٌ منكبه الأيمن بضربة ابن قميئة، وركبتاه مجحوشتان. فدخل رسولُ الله-صلَّى الله عليه وسلَّم - المسجدَ فركع ركعتين، والناسُ قد حشدوا، ونزل أهلُ العوالي حيث جاءهم الصريخُ ثم ركع رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم – ركعتين، فدعا بفرسه على بابِ المسجدِ وتلقَّاه طلحةُ- رضي الله عنه-، وقد سمع المناديَ، فخرج ينظرُ متى يسيرُ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإذا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عليه الدِّرعُ والمِغْفَرُ، وما يُرى منه إلا عيناه، فقال: يا طلحةُ، سلاحك، فقلت: قريباً. قال طلحة: فأخرج أعدو فألبس دِرعي، وآخذُ سيفي، وأطرحُ درقتي في صدري; وإنَّ بي لتسع جراحات ولأنا أهمُّ بجراح رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم- منِّي بجراحي. ثم أقبل رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على طلحةَ، فقال: ترى القومَ الآن ؟ قال: هم بالسَّيّالَة. قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (ذلك الذي ظننتُ، أَمَا إنَّهم- يا طلحةُ- لن ينالُوا منَّا مثلَ أمس، حتى يفتح الله مكةَ علينا). وبعث رسولُ الله-صلَّى الله عليه وسلَّم-ثلاثةَ نفرٍ من" أسلم" طليعةً في آثار القوم،: "سَليطاً" و"نعمان" ابني سفيان بن خالد بن عوف بن دارم من بني سهم ومعهما ثالث من أسلم من بني عوير لم يُسمَّ لنا. فأبطأ الثالثُ عنهما وهما يَجْمِزان(1)، وقد انقطع قبالُ نعلِ أحدِهما، فقال: أعطني نعلك. قال: لا -والله- لا أفعل، فضرب أحدُهما برجله في صدره فوقع لظهره، وأخذ نعليه. ولحق القومُ بحمراء الأسد، ولهم زَجَلٌ، وهم يأتمرون بالرجوع، وصفوان ينهاهم عن الرجوع فبصروا بالرجلين فعطفوا عليهما فأصابوهما. فانتهى المسلمون إلى مصرعهما بحمراء الأسد فعسكروا، وقبروهما في قبرٍ واحدٍ.
فقال ابنُ عبَّاسٍ : هذا قبرُهما، وهما القرينان. ومضى رسولُ الله-صلَّى الله عليه وسلَّم - في أصحابهِ حتى عسكروا بحمراء الأسد. قال جابر: وكان عامَّةُ زادِنا التمرُ، وحمل سعدُ بن عُبادة ثلاثين جملاً حتى وافت الحمراء، وساق جُزُراً فنحروا في يومٍ اثنين، وفي يومٍ ثلاثاً. وكان رسولُ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم - يأمرهم في النَّهار بجمع الحطب، فإذا أمسوا أمرنا أنْ نُوقدَ النيران. فيوقد كلُّ رجلٍ ناراً، فلقد كنَّا تلك الليالي نُوقدُ خمسمائة نارٍ، حتى تُرى من المكان البعيد، وذهب ذكرُ معسكرِنا ونيرانِنا في كلِّ وجهٍ، حتى كانَ مما كبت الله–تعالى- عدوَّنا.
وانتهى معبدُ بن أبي معبد الخزاعي، وهو يومئذٍ مشركٌ، وكانت خُزاعةُ سلماً للنبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-، فقال: يا محمدُ، لقد عزَّ علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أنَّ الله أعلى كعبك، وأنَّ المصيبة كانت بغيرك. ثم مضى معبدٌ حتى يجد أبا سفيان وقريشاً بالرَّوحاء، وهم يقولون: لا محمداً أصبتُم، ولا الكواعبَ أردفتُم، فبئس ما صنعتم، فهم مجمعون على الرجوع، ويقول قائلهم -فيما بينهم-: ما صنعنا شيئاً، أصبنا أشرافَهم، ثم رجعنا قبل أنْ نستأصلَهم قبل أن يكونَ لهم وفرٌ - والمتكلمُ بهذا عكرمةُ بن أبي جهل. فلمَّا جاء معبدٌ إلى أبي سفيان، قال: هذا معبدٌ، وعنده الخبرُ، ما وراءك يا معبدُ ؟
قال: تركت محمداً وأصحابَهُ خلفي يتحرَّقون عليكم بمثل النيران، وقد جمع معه من تخلَّف عنه بالأمس من الأوس والخزرج، وتعاهدوا ألا يرجعوا حتى يَلحقوكم فيثأروا منكم، وغضبوا لقومهم غضباً شديداً ولمن أصبتم من أشرافهم. قالوا: ويلك ما تقولُ؟ قال: والله ما نرى أن نرتحل حتى نرى نواصي الخيل، ثم قال معبدٌ: لقد حملني ما رأيتُ منهم أنْ قلتُ أبياتاً:
كادت تهُدُّ من الأصـواتِ راحلتـي
إذْ سـالتِ الأرضُ بالجُرْدِ الأبــابيلِ
تعـدو بأُسـدٍ كـرامٍ لا تنــــابلة
عــند اللقـاءِ ولا ميــلٍ معـازيـل
فقلـتُ ويـلُ ابنِ حـربٍ من لقائهمُ
إذا تَغَطْمَطَت(2) البطحــاءُ بالخيــلِ
وكان مما ردَّ الله –تعالى- أبا سفيان وأصحابه كلامُ صفوان بن أمية، قبل أن يطلعَ معبدٌ وهو يقول: يا قومُ، لا تفعلوا، فإنَّ القومَ قد حزنُوا وأخشى أنْ يجمعوا عليكم مَن تخلَّف من الخزرج، فارجعوا والدولةُ لكم، فإنِّي لا آمنُ إنْ رجعتم أنْ تكونَ الدولةُ عليكم. قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : "أرشدهم صفوانُ، وما كان برشيدٍ، والذي نفسي بيده لقد سُوِّمت لهم الحجارةُ، ولو رجعوا لكانوا كأمسِ الذاهبِ". فانصرف القومُ سراعاً خائفين من الطلب لهم، ومَرَّ بأبي سفيان نفرٌ من عبد القيس يُريدون المدينةَ، فقال: هل أنتم مبلغون محمداً وأصحابَهُ ما أُرسلكم به على أنْ أوقر لكم أباعرَكم زبيباً غداً بعكاظ، إنْ أنتم جئتُموني؟
قالوا: نعم. قال حيثما لقيتم محمداً وأصحابَهُ، فأخبروهم أنَّا قد أجمعنا الرجعةَ إليهم وأنَّا آثاركم. فانطلق أبو سفيان، وقدم الرَّكبُ على النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابِهِ بالحمراءِ، فأخبروهم بالذي أمرهم أبو سفيان، فقالوا:حسبُنَا الله ونعم الوكيلُ، وفي ذلك أنزل الله -عَزَّ وجَلَّ -: {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} (172) سورة آل عمران. وقوله {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } (173) سورة آل عمران. وكان معبدٌ قد أرسلَ رجلاً من خُزاعة إلى رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُعلمه أنْ قد انصرفَ أبو سفيان وأصحابُه خائفين وَجِلين. ثم انصرف رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى المدينة.(3)
للمزيد راجع:
"سبل الهدى والرشاد في سيرة خير" العباد للصالحي (4/308-316)، و"الرحيق المختوم" للمباركفوري (318-321)، و"ابن هشام" (3/65-69)، و"عيون الأثر في سيرة خير البشر" لابن سيد الناس (2/57-58)، و"السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية" لمهدي رزق الله أحمد (407).
الفوائد من غزوة حمراء الأسد
1. إن خروج الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى حمراء الأسد يعد مظهراً من مظاهر الكمال المحمدي من: شجاعة وتحمل وصبر وعدم الاستسلام لأي مظهر من مظاهر الهزيمة، وحسن سياسة، وبياناً لفضل أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- وما كانوا عليه من طاعة وصبر وتحمل، واستجابة لله والرسول، وفيهم نزل قول الله - تعالى-: ((الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)) آل عمران: 172-174. راجع "السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية" (ص 408).
2. تأثير الدعاية في نفوس غير الصابرين، ولذا كان خطر الدعاية عظيماً ووجب اتقاؤه.
3. تقرير مبدأ: المؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين.
4. مشروعية الشفاعة في غير الحدود الشرعية. راجع "هذا الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- يا محب" (ص277).